لون اللعنة
لون اللعنة بقلم إبراهيم الكوني ... "أخفت حبة الليل في تغيير بصمة القدر فضرب الشقي رأسه بجدران أعمدة خرائب يوليوس قيصر حتى صنع الدم على وجهه سيماء أشبه برموز السحرة. وسمعه الخلق وهو يخرق سكون الليل بالعواء الذي اعتاد أن يطلقه كلما أحاقت به بلية. ولم يدر بخلد أحد أن بلاد تلك الليلة يمكن أن يدفع سليل الظلمات إلى استعمال ذلك الترياق الذي اعتاد أهل اليأس أن يحتكموا إليه لمداواة أي داء! تسلل، متلبساً جنح الظلام، وغاب في أزقة المدينة القديمة. ولم يلبث أن عاد من رحلته ملفوفاً بحبل فظيع مفتول من ألياف الحسد. توقف فوق القنطرة. انحنى نحو الأسفل فبدا واضحاً أنه يتأمل انسياب الماء في مجرى النهر. تأمل النهر طويلاً. ثم شيع بصره إلى أعلى فلمعت في عينيه عناقيد النجوم. رأى في ومضيها ما لم يره من قبل، كما رأى منذ قليل ما لم يره في الماء من قبل. أدرك أن الحياة هي ذلك اللغز الذي لا تتكشف لنا حقيقته إلا في اللحظة التي نقرر فيها أن نتخلى عنها إلى الأبد. راى الشعر مجسداً في تدافع المياه، في مرونة المياه، في تسامح المياه، في دهاء المياه، في التواءات المياه وهي تتجنب الصخور، في غناء المياه وهي تتلاطم أو تتخاصم أو تتلاءم، في سلطان المياه، وفي هشاشة المياه أيضاً. رأى الشعر في مسلك المياه فأيقن بحكمة المياه، بل بربوبية المياه. والآن ها هو يرنو إلى ملكوت السماوات فتهب لملاقاته قوافل الأنجم لتكلمه بأشعار من ضرب آخر. تكلمه بلسان آخر، في إيماء آخر، فاستشعر وجداً نافعاً لم يدر أين أو متى ذاق لمثيله طعماً. استولى الوجد فارتجّ وترنح وشهق كمن ينازع لالتقاط أنفاس النزع الأخير. شهق فلفظ شعراً. قال الشعر في بيتين اثنين كما اعتاد أن يفعل في الماضي عندما تستولي عليه حمّى الحنين، فأثارت أبياته فضول الأهالي حتى أنها نالت استحسان البعض، في حين أيقظت في نفوس ذوي الحسد صنوف الحقد (كما يحدث عادة كلما هلّت على الدنيا شموس نبوغ جديد) فانبرى هؤلاء يشتمونها ويتبارون في السخرية منها إلى حد جعل أحدهم يعقد مقارنة بين أشعاره تلك وبين الأشعار التي نظمها الطاغية نيرون في يوم الحريق الذي التهم روما فاعتلى الرابية المشرفة على المدينة ليغني أبياتاً جاءت بها قريحته المريضة احتفاءً بزوال أم الدنيا. العبارة المجهولة، وتلألأت في مقلتيه الدموع وهو يتطلع تارة إلى النجوم في الأعالي، وتارة إلى لسان الماء المهاجر في ديار الأسافل. وراء التلال الشرقية انبثق قبس قمر شاحب مغلول بالمحاق".