الكتابة بالقفز والوثب

(0)
(0)
تقييم الكتاب
0.0/5 0
نبذة عن الكتاب

الكتابة بالقفز والوثب بقلم عبد السلام بنعبد العالي ... كتابٌ فلسفيٌّ استهلَّه الكاتبُ بمقولةٍ تضعُ القارئ في محلِّ تساؤل عن طبيعة هذه الكتابة: «لا يمكننا التفكير في المتعدِّد من غير إقامة جسور بين الاختلافات، من غير أن نؤكِّد الاختلافات في علائقها المُتبادلة». الكتاب الجديد هو الإصدار الثاني للكاتب عن المتوسط بعد "لا أملك إلَّا المسافات التي تُبعدني" بداية 2020. في مقدِّمة الكتاب، يمضي عبد السلام بنعبد العالي، في تفكيكِ عبارة العنوان التي هي اقتباس عن كيليطو، الذي اقتبسها بدوره عن مونتيني، وذكَرهُ ضمن محاضرة تحدَّث فيها عن مساره وطريقته في الكتابة. ويضيف: في كتابه عن نفسه Barthes par Barthes، يربط رولان بارت الكتابة المتقطِّعة بأمرَيْن اثنَيْن: الموسيقى، وموسيقى فيبرن على الخصوص، ثمَّ رياضة الكاتش، يُقرِّب بارت التكثيف في الكتابة المتقطِّعة من التكثيف الموسيقي، ليُبيِّن أن الكتابة المتقطِّعة تضبطها موسيقى مغايرة، وأن كثافتها أقرب إلى التكثيف الموسيقي الذي «يضع «النغمة محل "الاسترسال"... فيُومِئ إلى وجهة، كما يتجلَّى هذا في المقطوعات الموجزة لفيبرن: غياب للإيقاع، جلال ومهارة في سرعة التَّخلُّص». هذا عن علاقة الكتابة المتقطِّعة بالموسيقى، فما علاقتها برياضة الكاتش؟ نعلم أن صاحب أسطوريات كان قد سَبَقَ له أن عقد مقارنة مطوَّلة بين مباراة الكاتش ومباراة الملاكمة، فاستنتج أن الأخيرة عبارة عن حكاية تُبنَى تحت مراقبة أعين المشاهد. أمَّا في الكاتش، فالمعنى يُستمَدُّ من اللحظة، وليس من الدوام والاستمرار. المُشاهِدُ هنا لا يَشغَل بَالَهُ بعملية تكوُّن ونشأة، وإنما يترقَّب الصورة اللَّحظيَّة لتجلِّي بعض الانفعالات. يستدعي الكاتش، إذنْ، قراءة فورية لمعانٍ تتراكم دونما حاجة لرَبْطها فيما بينها، فلا يهمُّ المُشاهدَ هنا مآل المعركة الذي يمكن للعقل أن يتتبَّعه. أمَّا مباراة الملاكمة، فهي تستدعي معرفة بالمآل، وتبيُّناً للغايات والمرامي، وتنبُّؤاً بالمستقبل. بعبارة أخرى، فإن الكاتش حصيلة مَشَاهد لا يُشكِّل أيٌّ منها دالَّة، تتوقَّف على غيرها من المتغيِّرات: فكلُّ لحظة تتطلَّب إحاطة كُلِّيَّة وانفعالاً ينبثق في انعزاله وتفرُّده من غير أن يمتدَّ، ليُتوِّج مآلاً بأكمله. «في الكاتش تُدرَك اللحظةُ، وليس الدَّيمومةَ». إنه مشهدٌ مَبنيٌّ على الانفصال والتَّقطُّع. وتقطُّعه و«عدم انسجامه يحلُّ محلَّ النظام الذي يُشوِّه الأشكال». مباراة الملاكمة حكاية تروي حركة موصولة، تصدر عن أصل، لتمتدَّ في الزمان، كي تسير نحو غاية، أمَّا مباراة الكاتش، فإن دلالاتها تقف عند اللَّحظيِّ الذي لا يتَّخذ معناه من غاية الحركة ومسعاها، ولا تتوقَّف دلالته على كُلِّيَّة خارجية. لا يعني هذا مطلقاً أن الأمر يقتصر على المقابلة بين الزَّمانيِّ واللَّحظيِّ، بين الحركة والتَّوقُّف، بين التاريخ ونَفْيه، بقَدْر ما يعني تمييزاً بين تاريخ وتاريخ: فـ «تاريخ» مباراة الملاكمة تاريخ توليدي تكويني génétique، لا يُدرِك المُشاهِدُ معناه إلَّا إنْ هو بَنَى Construire حكاية تربط الأصل بالغاية، كي ترى في اللحظة، ليس معنى في ذاته، بل حلقة في سلسلة مترابطة، يتوالد فيها المعنى، ولا يكتمل إلَّا عند معرفة المآل. لذا يُعلِّق بارت: «في الملاكمة تقع المراهنة على نتيجة المعركة». أي أن الأمور تكون في الملاكمة بخواتمها، أمَّا في الكاتش، «فلا معنى للمراهنة على النتيجة» لسبب أساس، وهو أن المعنى لا يمثُل في حركة الأصل، ولا يَنتظِرُ المآلَ، وإنما يتجسَّد في غِنَى اللحظة. بيد أن هذا لا ينفي التراكم، ولا يستبعد التاريخ. لكنه ليس التاريخ التَّاريخانيَّ، وهو ليس حركة حاضر ينطلق من أصل لينموَ في اتِّصال وتأثير وتأثُّر حتَّى يبلغ النهاية والغاية والمعنى sens. ليس التاريخ هنا سريانَ المعنى ونُمُوَّه وتطوُّرَه développement في مسلسل مستمرٍّ و«سيرورة» processus متواصلة، وإنما هو إعادة اعتبار لكثافة اللحظة، لكي تحتفظ بثرائها، من غير أن تذوب في الديمومة القاهرة. لم أتوقَّف طويلاً عند هذه المقارنة يقول بنعبد العالي، كي أستنتج أن الجاحظ أقرب إلى الكاتش منه إلى الملاكمة، وإنما لأتبيَّن معكم أنه لا يكفينا تحديد طبيعة الكتابة «بالقَفْز والوَثْب» بِرَدِّها إلى حالة نفسية، وتفسيرها بمَلَل القارئ أو حتَّى مَلَل الكاتب، لا يكفينا التأويل السّيكلوجيّ، وإنما لا بدَّ من التأويل "الشِّعْرِيّ" الذي يُمكِّننا من أن نذهب حتَّى القول إنه مَلَل الكتابة ذاتها. نقرأ على ظهر الكتاب مقولة لمارتن هايدغر، جاء فيها: «مادام هذا الكتاب باقياً أمامنا من غير أن يُقرأ، فإنه يكون تجميعا لمقالات ومحاضرات. أما بالنسبة لمن يقرؤه، فإن بإمكانه أن يغدو كتاباً جامعاً، أي احتضاناً واستجماعاً لا يكون في حاجة لأن ينشغل بتشتت الأجزاء وانفصالها عن بعضها.. إن كان المؤلف محظوظاً، فإنه سيقع على قارئ يُعمل الفكر فيما لم يُفكر فيه بعد». لا تستهدف الكتابة «بالقَفْز والوَثْب»، إذنْ، خلاصة خطاب، و«زبدة» فكر، وعلى رغم ذلك، فهي ليست نظرة «خاطفة»، ولا هي توقُّف وعدم حراك. إنها «حاضر» متحرِّك، حتَّى لا نقول هارباً. فهي تُومِئ إلى وجهة، من غير أن تدلَّ على طريق.

غير متاح للتحميل، حفاظًا على حقوق دار النشر.
أضف مراجعتك
أبلغني عند توفره للقراءة

نبذة عن الكاتب

عبد السلام بنعبد العالي عبد السلام بنعبد العالي

كاتب ومفكر مغربي حاصل على الدكتوراه في الفلسفة، وهو أستاذ جامعي بجامعة محمد الخامس بالرباط، له كثير من المقالات والدراسات العلمية، وقد نشرت له مجموعة من الكتب من بينها: (الفلسفة السياسية عند الفارابي). (الميتافيزيقا، العلم والأيديولوجيا) (أسس الفكر الفلسفي المعاصر) (ثقافة العين و ثقافة الأذن). (ميتولوجيا الواقع). (الفكر في عصر التقنية) (بين الاتصال والانفصال). (منطق الخلل).

أعمال أخرى للكاتب

كتب مشابهة

مراجعات العملاء

0.0/5

0.0 out of 5 stars

من 0 مراجعات

تقييمات ومراجعات

5 نجوم

0 %

4 نجوم

0 %

3 نجوم

0 %

2 نجوم

0 %

1 نجوم

0 %

قيِّم الكتاب

شاركنا رأيك وتقييمك للكتاب.

سجل دخولك لتتمكن من إضافة مراجعتك.

أحدث المراجعات

لا توجد مراجعات بعد. كن صاحب أول مراجعة واكتب مراجعتك الآن.

أضف اقتباسًا

Recent Quotes

لا توجد اقتباسات بعد. كن صاحب أول اقتباس وأضف اقتباسك الآن.

القرّاء

لا يوجد قراء بعد