صمت بقلم محمد الحميدي ... لعل خير مدخل يمكن الولوج منه إلى قراءة رواية "صَمْتٌ" للكاتب السعودي محمد الحميدي هو القول المنسوب إلى أنشتاين في نصوص له وهو يحكي قصة الحياة التي أدركها بعد اكتشافه البعد الرابع في نظريته النسبية؛ فإذا تأملنا ما قاله: الكون مثل غابات يسودها الصمت، وهي مدعاة للتأمل العميق، ولكنك تخشى منها في ظل عتمة ذلك الصمت الهائل، ولكنك تفزع عندما ينكسر الصمت بحركة أو رشقة أو رنين أو حفيف أو فرقعة عظيمة.. تُحدثها ظروف غامضة. إن التهيؤات لا شكل لها بتأثير التشيّؤات، ولكن الأمور تبدو عظيمة عندما يعلن الصمت عن تعبيره بأشكال مستنيرة؛ فتتوالد أشياء جديدة لم نألفها إن اختراقات الصمت قد تأتي في حالة قصور الصمت من عدمه، لا غير، فالأصوات تكسر الصمت، ولكن التنوير يعبر عنه.. الكون كله حالة كبرى ولكن الأرض هي حالة معينة من نوع آخر... وهي الحالة التي سوف يصل إليها بطل رواية "صمت" الفتى "إسماعيل" الذي بدا منذ أولى صفحات الرواية، مولعاً بالصمت "حالة من حالات العشق انتابتني إزاء الصمت، صوتي لا أهمية له، كذلك الأصوات الأخرى، الصمت هو المهم، بدوت عاشقاً للصمت، تلبست به، استغرقني حد الثمالة، علاقتي بالصمت تجاوزت جميع الحدود، لا يستطيع أحدٌ إخراجي من الصمت، بدا الصمت قوياً، القوة التي يحتاج إليها الكلّ، دون التمكن من الحصول عليها". وعبر فلسفة الصمت وبراوٍ عليم واحد يصوغ لنا الكاتب الحميدي حكاية فتىٌ عاش في العصر العثماني يدعى "إسماعيل" راصداً رحلة عبوره بين حياتين الأولى تبدأ بالولادة "ولدت مع الصمت وولد الصمت معي.. لم أتكلم... لم أصرخ... لم أصدر أي حركة وقت ولادتي... كنت صنماً جامداً (...) لا يمكنني تذكر شيء، التفاصيل الصغيرة لا أذكرها، كل التفاصيل في صغري صغيرة، وصغيرة جداً... النساء...أمي... الأواني الوسخة... القمصان البالية... أشعة الشمس..."، أما الحياة الثانية فتبدأ عندما قذفه القدر إلى منزل حاكم المستعمرة العثماني الذي أحبه واحتضنه وقرر وزوجته الاحتفاظ به كابن لهما، كونهما لا ينجبان الأطفال، يتقبل الفتى فكرة التبني، ويبتعد عن أمه طوعاً منه، وبعد فترة يسافر مع عائلته الجديدة إلى إسطنبول في رحلة بحرية وفي طريق العودة تتعرض السفينة ومن فيها إلى عاصفة هوجاء تودي بحياة الجميع بما فيهم الحاكم وزوجته "غرقت السفينة، وغرق جميع من عليها... كنت بينهم بالطبع (...) أتاني الصمت بثيابه الملائكية، يدعوني للذهاب معه... لكنني لم آبه لنداءاته المتكررة... فضلت البقاء... ألحّ في سؤالي... أرتطمَ بصخرة... أمسكني ليذهب بي... أفلتُّه... لم أعد أثق به... غضب مني لهذا التصرف... أرتفع عالياً، وهو ينظر إليَّ بطرف عينه... أحسست بالراحة حينما ذهب...". عبر هذا الفضاء الصامت خلق الحميدي من حبره كائنات قصصية تحركت في عوالمها وتنفست في بيئة مهيأة، اعتمدت مستوى جمالي من اللغة البصرية المتلاحمة مع شهية سردية جميلة السبك، انسلت ضمن المعمار الفني للقصة الحديثة على الرغم من عالمها المرجعي الذي هو ما قبل حداثي، فأبدع في خلق مادة أدبية ممتعة وعميقة منها تحيل إلى أكثر من معنىٌ في هذا الكون الواسع. وعليه، ربما أراد الحميدي من خلال روايته "صَمْتٌ" القول لنا أن اختياراتنا ليس بالضرورة هي ما تجعلنا راضين عن حياتنا، فالحياة مغامرة كبيرة، وهذا يعني مسؤولية الإنسان عن أفعاله، لذلك فإن اتخاذه أي قرار وسلوكه أي طريق سوف يقوده إلى صورته الحقيقة، ويضعه وجهاً لوجه أمام نفسه، تماماً مثلما حصل لبطل هذه الرواية الذي لم يكتشف معنى الصمت الحقيقي إلاّ في تجربة الموت "منذ ذلك الحين، وأنا أطوف في جميع الأماكن، إلى أن اكتشفتُ أن حكايتي... هي سبب مصيبتي!!".
كتب مشابهة
تقييمات ومراجعات (صمت)
مراجعات العملاء
0.0 out of 5 stars
من 0 مراجعات
تقييمات ومراجعات
-
5 نجوم
- 0 %
-
4 نجوم
- 0 %
-
3 نجوم
- 0 %
-
2 نجوم
- 0 %
-
1 نجوم
- 0 %
أحدث المراجعات
لا توجد مراجعات بعد. كن صاحب أول مراجعة واكتب مراجعتك الآن.
Recent Quotes
لا توجد اقتباسات بعد. كن صاحب أول اقتباس وأضف اقتباسك الآن.
القرّاء
لا يوجد قراء بعد