Baqir

4 out of 5 stars

ترجمة رديئة بامتياز! "ولو عاد دوستويفسكي من قبره لأقام دعوى قضائية ضد مثل هذه الترجمات بتهمة إهانة النص!" قولٌ جميل احتوته مقدِّمة المحرر بين سطورها، وهو قول لا يخلو من صدق، كما أنه وفي الوقت ذاته، لا يخلو من مفارقة؛ وكأن المحرر بقوله هذا يسخر من الترجمة التي يقدم لها بغير وعي منه. ولستُ أرى ترجمةً ينطبق عليها هذا الوصف إنطباقًا، وتستحق رفع دعوى قضائية ضدها سوى هذه الترجمة ذاتها. قولٌ قطعي مثل هذا يحمل إيحاءً في ثناياه، مضمونه أن هذا النص معصوم عن الزلل؛ أو أنه يريد أيصال هذا المعنى للقارئ بشكل أو آخر. هذا واستهلّ المحرر والمراجع مقدمته ناقدًا ومبرزًا مواطن الخلل والقصور التي تمتلئ بها الترجمات المشهورة، وأبرزها ترجمة الأستاذ سامي الدروبي. وليته تواضع ولو قليلًا في كلامه، كي لا يبدو بمظهر مخجل في حال كان النص الذي يقدّم له مليئًا بالسقطات والتناقضات؛ وهو ما كان فعلًا! على الرغم من التطبيل المهول الذي دومًا ما يصادفنا في مقدمة كل عملٍ جديد، يُراد به الإعلاء من شأنه عمومًا، وفي هذه الترجمة الذي بين أيدينا خصوصًا، فهي في الواقع ترجمة منقوصة من جوانب عدّة؛ يملأ بعض فقراتها "كلمات مقحمة كأنها شوكة سمكة علقت في طبق من الحلوى"، ويخلو الآخر منها من كلمات لا يتم المعنى إلا بها. لا يستطيع القارئ والحال هذه، أن يفهم منها بعض الفقرات _من غير أن تلتبس عليه_ دون أن يرجع إلى ترجمة بديلة أصيلة، تبيّن وتوضح له ما اعتاص عليه فهمه من هذه الترجمة. كأننا في ترجمة "ن. حاسبيني" أمام طلسم لا نفهم الغازه ولا نقدر على فك رموزه إلا بالرجوع إلى ترجمة الدروبي في كل لحظة، وكأن ترجمة الدروبي ترجمةٌ للترجمة، تشرح وتفسر لنا ما الذي يريد به دوستويفسكي هنا وهناك! في البدء كان الدروبي. لم أكن لأصدفَ عن ترجمة هذا المترجم الفذ لولا الفضول، وحب الخروج عن العادة. لم أرتح بدايًة لهذه الترجمة على الرغم من ذلك، ولكني اخترتها على أي حال، وليتني ما فعلت، لكن ما حصل حصل. كثيرة هي الفقرات الغامضة، غير المفهومة بذاتها دون الرجوع الى ترجمة آخرى، تحتويها ترجمة ن. حاسبيني. نأخذ منها على سبيل المثال ما ورد في حديث دوستويفسكي عن الاشتراكية، حيث نجد في ترجمة حاسبيني ما نصه: "إنها مسألة برج بابل الذي شيدوه _دون مشيئة الله_ للصعود من الأرض إلى السماء بل للهبوط من السماء إلى الأرض". سبك هزيل للجملة يكاد لا يُفهم آخره دون الرجوع لترجمة الدروبي، حيث ترجم نفس الفقرة بالشكل الآتي: "إنها مسألة برج بابل التي يحاول البشر أن يشيدوه بلا إله بالضبط، لا ليرتقوا من الأرض إلى السماوات، بل لينزلوا السماء الى الأرض". وجاءت الترجمة الإنجليزية لنفس الفقرة على هذا النحو: "it is a tower of Babel built specifically without God, not in order to ascend to heaven from earth. But in order to bring heaven down to earth". بمقارنة الترجمتين بالترجمة الإنجليزية لنفس الفقرة يتبين لنا الفرق بين إحكام وجودة ترجمة الدروبي، وإبهام ورداءة ترجمة حاسبيني، في غير موضع من الرواية، فترجمة الدروبي ترجمة متناسقة، ترتبط المفردات فيها بعضها ببعض مكونةً جملًا محكمة ذات معنى؛ مفهومة بغير عناء، وهذا على النقيض تمامًا من ترجمة حاسبيني، التي تتطلب إعمال الفكر كيما يصل القارئ للمعنى المطلوب، وقد لا يفهم ما المراد أصلًا إلا بالرجوع لترجمة بديلة! هَنة أخرى من هَنات وسقطة من سَقطات: "فإذا رأى معجزة تفرض نفسها على العقل، فسوف يميل إلى إنكار حواسه ويقر بوقوع المعجزة"! كيف يُعقل أن يميل إلى إنكار حواسه ويقر بوقوع المعجزة في الوقت ذاته؟! إن هذه الفقرة تظل غير مفهومة إلا بالرجوع مرةً أُخرى لترجمة الدروبي، التي ورد فيها ترجمة الفقرة ذاتها بهذا الشكل: "فإذا أكدت هذه المعجزة نفسها بحادثة لا سبيل إلى جحودها آثر أن يشك في صدق حواسه على أن يسلم بالواقع". وهي ترجمة صحيحة ذات صياغة متقنة مفهومة، على العكس من ترجمة ن. حاسبيني. وهاك مثالٌ آخر. جاء في الفصل الخامس من الباب الثاني في الجزء الأول من الرواية في ترجمة ن. حاسبيني ما نصه: "إنَّ سلطة القضاء المدني والجنائي يجب أن تكون تابعة للكنيسة لأنها تتعارض مع طبيعتها، سواء من حيث كونها مؤسسة دينية أو تنظيم إنساني يستعلى من أجل أهداف دينية". ومرة إثر مرة يتكرر مسلسل التناقضات بلا نهاية، ونضطر للجوء مرة بعد أُخرى عند الدروبي كي يقشع غمامة الإبهام عن أذهاننا، إذ أن الترجمة الصحيحة للفقرة تكون هكذا: "إن حق القضاء الجنائي والمدني يجب أن لا ينتمي للكنيسة، لأنه يتنافى مع ماهيتها كمؤسسة دينية ويتنافى أيضًا مع صفتها كتنظيم إنساني وجد لتحقيق أهداف دينية". انظر وأمعن، لترى وضوح ورشاقة ترجمة الدروبي وتفوقها في أكثر من موضع على ترجمة حاسبيني. ومما يؤكد صحّة ترجمة الدروبي للفقرة الأخيرة هو، أولًا: أنها ترجمة واضحة بذاتها والمعنى الذي تريد إيصاله للقارئ لا يتناقض وجوهر الواقع، على العكس من ترجمة حاسبيني؛ فمن غير المعقول أن تتعارض سلطتي القضاء المدني والجنائي مع الكنيسة وفي الوقت ذاته ولأجل هذا التعارض يجب ان تكونا تابعتين لها! ثانيًا: إن الترجمة الإنجليزية تؤكد صحة ما ذهب إليه الدروبي في ترجمته: "That the power of the criminal and civil law should not be vested in the church, For such power is incompatible with the very nature of the church both as a divine institution and as a community of people pursuing religious goals". هذا كله والتماس العذر للمترجم _رغم سبكه الركيك لأغلب الفقرات_ يظل ضروريًا، إذ قد يكون كل ما في الأمر هو أخطاء مطبعيّة أخلّت بالسياق العام في بعض المواضع، وهي أخطاء لا مندوحة عنها وقد يكون لا دخل للمترجم بها، وهنا سؤال يُطرح تلقائيًا: ما هي وظيفة "المُراجع"؟ من المعلوم أن طبعة "عصير الكتب" هي نُسخة "مُراجعة" من الطبعة التي نشرتها مسبقًا "دار ومكتبة الحياة"، قام "بمُراجعتها" محمد الجيزاوي الذي قام بكل شيء خلا "المراجعة". فبعد تفحص ومقارنة بين الطبعتين، نجد أن الأخطاء التي احتوتها طبعة دار الحياة، تكررت في طبعة عصير الكتب. ولم يزد عليها "الجيزاوي" إلا المقدمة التي افتتح بها الكتاب دون أن يكون له إسهام فعليّ ذو نفع في هذه الطبعة ككل. من اللازم ذكر أن أغلب الأمثلة التي أوردتها هي من مجمل 130 صفحة الاُولى من الجزء الأول فقط، وقد تغاضيت عن ذكر بقيّة لا حصر لها من الفقرات مترعة بالأخطاء والتناقضات. وآخر القول، أن لا حاجة لنا بطبعات "تجارية" ذات ترجمات رديئة تضلل القارئ عن المعنى الأصلي والفكرة الرئيسة للنص، وتحجب عنه ترجمات أصيلة لا تُعيي القارئ وتنهك ذهنه، وتوصل له المعنى المنشود.